فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



التَّسبيحُ تنزيهُ الله تعالى اعتِقادًا وقولا وعملًا عمَّا لاَ يليقُ بجنابِه سبحانه منْ سبَحَ في الأرضِ والماء إذا ذهبَ وأبعدَ فيهمَا وحيثُ أُسندَ هاهنا إلى غيرِ العُقلاءِ أيضًا فإنَّ ما في السمواتِ والأرضِ يعمُّ جميعَ ما فيهمَا سواءً كانَ مستقرا فيهما أو جُزءًا منهَما كما مرَّ في آيةِ الكرسيِّ. أُريدَ به مَعْنى عامٌّ مجازيٌّ شاملٌ لما نطقَ به لسانُ المقال كتسبيحِ غيرِهم فإنَّ كلَّ فردٍ من أفرادِ الموجوداتِ يدلُّ بإمكانِه وحدوثِه على الصانعِ القديمِ الواجبِ الوجودِ المُتَّصفِ بالكمالِ المُنزهِ عن النُّقصانِ وهُو المرادُ بقوله تعالى: {وَإِن مّن شيء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} وهُو متعدَ بنفسِه كما في قوله تعالى: {وسبِّحُوه}. واللامُ إمَّا مَزيدةٌ للتأكيدِ كما في نصحتُ لَهُ وشكرتُ لَهُ أو للتعليلِ أي فَعَل التسبيحَ لأجلِ الله تعالى وخَالِصًا لوجهِه، ومجيئُه في بعض الفواتحِ ماضيًا وفي البعضِ مضارعًا للإيذانِ بتحقّقِه في جميعِ الأوقاتِ، وفيهِ تنبيهٌ على أنَّ حقَّ مَنْ شأنُه التسبيحُ الاختياريُّ أنْ يُسبِّحهُ تعالى في جميعِ أوقاتِه كما عليهِ الملأُ الأَعلى حيثُ يُسبحونَ الليلَ والنهارَ لاَ يفترُونَ {وَهُوَ العزيز} القادرُ الغالبُ الذي لاَ يُمانعُه ولا يُنازِعُه شيءٌ {الحكيم} الذي لا يفعلُ إلا ما تقتضيهِ الحكمةُ والمصلحةُ، والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لمضمون ما قبلَهُ مشعرٌ بعلة الحكمِ وكَذا قوله تعالى: {لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض} أي التصرفُ الكليُّ فيهَما وفيمَا فيهما مِنَ الموجوداتِ من حيثُ الإيجادُ والإعدامُ وسائرُ التصرفاتِ مما نعلمُه وما لا نعلمُه. وقوله تعالى: {يُحْىِ وَيُمِيتُ} استئنافٌ مبينٌ لبعضِ أحكامِ المُلكِ والتصرفِ. وجعلُه حالًا من ضميرٍ لهُ ليسَ كَما ينبغِي {وَهُوَ على كُلّ شَىْء} منَ الأشياءِ التي مِنْ جُمْلتها ما ذكِرَ منَ الإحياءِ والإماتِه {قَدِيرٌ} مُبالغٌ في القُدرةِ {هُوَ الأول} السابقُ على سائرِ الموجُوداتِ لِما أنَّه مُبدئها ومُبدعُها {والأخر} الباقي بعدَ فنائِها حقيقةً أوْ نظرًا إلى ذاتها مع قطعِ النَّظرِ عن مُبقيها فإن جميعَ الموجوداتِ المُمكنةِ إذا قُطعَ النظرُ عن علتِها فهيَ فانيةٌ {والظاهر} وجُودًا لكثرة دلائلِه الواضحةِ {والباطن} حقيقةً فلا تحومُ حولَهُ العقول. والواوُ الأُولى والأخيرةُ للجمعِ بينَ الوصفينِ المُكتنفينِ بهمَا والوُسطى للجمعِ بين المجموعينَ فهو متصفٌ باستمرارِ الوجودِ في جميعِ الأوقاتِ والظهورِ والخفاءِ {وَهُوَ بِكُلّ شيء عَلِيمٌ} لاَ يعزُبُ عنْ علمِه شيءٌ منَ الظَّاهرِ وَالخفيِّ.
{هُوَ الذي خَلَقَ السموات والأرض في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} بيانٌ لبعضِ أحكامِ ملكِهما وقد مرَّ تفسيرُه مِرارًا {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ في الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} مرَّ بيانُه في سورةِ سبأ {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ} تمثيلٌ لإحاطة علمِه تعالى بهم وتصويرٌ لعدمِ خروجِهم عنه أينما دارُوا. وقوله تعالى: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} عبارةٌ عن إحاطتِه بأعمالِهم فتأخيرُه عن الخلقِ لما أنَّ المرادَ به ما يدورُ عليه الجزاءُ من العلم التابعِ للمعلوم لا لما قيلَ من أنه دليلٌ علَيه. وقوله تعالى: {لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض} تكريرٌ للتأكيدِ وتمهيدٌ لقوله تعالى: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} أي إليهِ وَحْدَهُ لا إلى غيرِه استقلالًا أو اشتراكًا ترجعُ جميعُ الأمورِ، على البناءِ للمفعولِ من رجَعَ رَجْعًا. وقرئ على البناءِ للفاعلِ منْ رجعَ رُجُوعًا. {يُولِجُ الليل في النهار وَيُولِجُ النهار في الليل} مرَّ تفسيرُه مرارًا. وقوله تعالى: {وَهُوَ عَلِيمٌ} أيْ مُبالِغٌ في العلمِ {بِذَاتِ الصدور} أي بمكنوناتِها اللازمةِ لها، بيانٌ لإحاطةِ علمِه تعالى بمَا يُضمرونَهُ من نيَّاتِهم بعدَ بيانِ إحاطتِه بأعمالِهم التي يُظهرونَها. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {سَبَّحَ للَّهِ مَا في السموات والأرض} أي: نزّهه ومجده.
قال المقاتلان: يعني كل شيء من ذي روح وغيره، وقد تقدّم الكلام في تسبيح الجمادات عند تفسير قوله: {وَإِن مّن شيء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] والمراد بالتسبيح المسند إلى ما في السموات والأرض من العقلاء وغيرهم، والحيوانات والجمادات هو ما يعم التسبيح بلسان المقال كتسبيح الملائكة والإنس والجنّ، وبلسان الحال كتسبيح غيرهم، فإن كل موجود يدل على الصانع.
وقد أنكر الزجاج أن يكون تسبيح غير العقلاء هو تسبيح الدلالة وقال: لو كان هذا تسبيح الدلالة، وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة، فلم قال: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وإنما هو تسبيح مقال، واستدل بقوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الجبال يُسَبّحْنَ} [الأنبياء: 79] فلو كان هذا التسبيح من الجبال تسبيح دلالة لم يكن لتخصيص داود فائدة، وفعل التسبيح قد يتعدّى بنفسه تارة، كما في قوله: {وَسَبّحُوهُ} [الأحزاب: 42] وباللام أخرى كهذه الآية، وأصله أن يكون متعديًا بنفسه؛ لأن معنى سبحته: بعدته عن السوء، فإذا استعمل باللام، فهي إما مزيدة للتأكيد، كما في شكرته، وشكرت له، أو هي للتعليل، أي: افعل التسبيح؛ لأجل الله سبحانه خالصًا له، وجاء هذا الفعل في بعض الفواتح ماضيًا كهذه الفاتحة، وفي بعضها مضارعًا، وفي بعضها أمرًا للإشارة إلى أن هذه الأشياء مسبحة في كل الأوقات لا يختصّ تسبيحها بوقت دون وقت، بل هي مسبحة أبدًا في الماضي، وستكون مسبحة أبدًا في المستقبل، {وَهُوَ العزيز} أي: القادر الغالب الذي لا ينازعه أحد، ولا يمانعه ممانع كائنًا ما كان {الحكيم} الذي يفعل أفعال الحكمة والصواب.
{لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض} يتصرّف فيه وحده، ولا ينفذ غير تصرّفه وأمره، وقيل: أراد خزائن المطر والنبات، وسائر الأرزاق {يحيى ويميت} الفعلان في محل رفع على أنهما خبر لمبتدأ محذوف، أو في محل نصب على الحال من ضمير له، أو كلام مستأنف، لبيان بعض أحكام الملك، والمعنى: أنه يحيي في الدنيا ويميت الأحياء، وقيل: يحيي النطف وهي موات، ويميت الأحياء، وقيل: يحيي الأموات للبعث {وَهُوَ على كُلّ شيء قَدِيرٌ} لا يعجزه شيء كائنًا ما كان.
{هُوَ الاول} قبل كل شيء {والآخر} بعد كل شيء، أي: الباقي بعد فناء خلقه {والظاهر} العالي الغالب على كل شيء، أو الظاهر وجوده بالأدلة الواضحة {والباطن} أي: العالم بما بطن، من قولهم: فلان يبطن أمر فلان، أي: يعلم داخلة أمره، ويجوز أن يكون المعنى المحتجب عن الأبصار، والعقول، وقد فسّر هذه الأسماء الأربعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي، فيتعين المصير إلى ذلك {وَهُوَ بِكُلّ شيء عَلِيمٌ} لا يعزب عن علمه شيء من المعلومات.
{هُوَ الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} هذا بيان لبعض ملكه للسموات والأرض.
وقد تقدّم تفسيره في سورة الأعراف وفي غيرها مستوفي {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ في الأرض} أي: يدخل فيها من مطر وغيره {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من نبات وغيره {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء} من مطر وغيره {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي: يصعد إليها من الملائكة، وأعمال العباد، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة سبأ {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ} أي: بقدرته، وسلطانه، وعلمه، وهذا تمثيل للإحاطة بما يصدر منهم أينما داروا في الأرض من برّ وبحر {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا يخفى عليه من أعمالكم شيء {لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض} هذا التكرير للتأكيد {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} لا إلى غيره.
قرأ الجمهور {ترجع} مبنيًا للمفعول.
وقرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر على البناء للفاعل.
{يُولِجُ اليل في النهار وَيُولِجُ النهار في اليل} قد تقدّم تفسير هذا في سورة آل عمران، وفي مواضع {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي: بضمائر الصدور ومكنوناتها، لا يخفى عليه من ذلك خافية.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، ومسلم، والترمذي، والبيهقي، عن أبي هريرة قال: جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله خادمًا، فقال: قولي: «اللَّهمّ ربّ السموات السبع، ورب العرش العظيم، وربنا وربّ كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحبّ والنوى، أعوذ بك من شرّ كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر، فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر».
وأخرج أحمد، ومسلم، وغيرهما من حديث أبي هريرة من وجه آخر مرفوعًا مثل هذا في الأربعة الأسماء المذكورة، وتفسيرها.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر وأبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا: هذا الله كان قبل كل شيء، فماذا كان قبل الله؟ فإن قالوا لكم ذلك، فقولوا: هو الأوّل قبل كل شيء، والآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فوق كل شيء، وهو الباطن دون كل شيء، وهو بكل شيء عليم».
وأخرج أبو داود عن أبي زميل قال: سألت ابن عباس، فقلت: ما شيء أجده في صدري، قال ما هو؟ قلت: والله لا أتكلم به، قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قال، وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال: حتى أنزل الله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ} الآية [يونس: 94] قال: وقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئًا فقل: {هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ} قال: عالم بكم أينما كنتم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال الشنقيطي:
قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش}.
يدل على أنه تعالى مستو على عرشه عال على كل جميع خلقه.
وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} يوهم خلاف ذلك.
والجواب: أنه تعالى مستو على عرشه كما قال بلا كيف ولا تشبيه استواء لائقا بكماله وجلاله وجميع الخلائق في يده أصفر من حبة خردل فهو مع جميعهم بالإحاطة الكاملة والعلم التام ونفوذ القدرة سبحانه وتعالى علوا كبيرا فلا منافاة بين علوه على عرشه ومعيته لجميع الخلائق ألا ترى ولله المثل الأعلى أن أحدنا لو جعل في يده حبة من خردل أنه ليس داخلا في شيء من أجزاء تلك الحبة مع أنه محيط بجميع أجزائها ومع جميع أجزائها والسموات والأرض ومن فيهما في يده تعالى أصغر من حبة خردل في يد أحدنا وله المثل الأعلى سبحانه وتعالى علوا كبيرا فهو أقرب إلى الواحد منا من عنق راحلته بل من حبل وريده مع أنه مستو على عرشه لا يخفى عليه شيء من عمل خلقه جل وعلا. اهـ.

.تفسير الآيات (7- 8):

قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قامت الأدلة على تنزيهه سبحانه عن شائبة كل نقص، وإحاطته بكل صفة كمال، المقتضي لثبوت أن الملك له، الموجب قطعًا لتفرده بعموم الإلهية، المقتضي لإرسال من يريده إلى جميع من في ملكه، وختم بالعلم بالضمائر التي أجلها الإيمان، قال آمرًا بالإذعان له ولرسوله- صلى الله عليه وسلم ـ: {آمنوا} أي أيها الثقلان {بالله} أي الملك الأعظم الذي لا مثل له {ورسوله} الذي عظمته من عظمته.
ولما كان الإيمان أساسًا، والإنفاق وجهًا ظاهرًا ورأسًا، قال جامعًا بين الأساس الحامل الخفي والوجه الظاهر الكامل البهي: {وأنفقوا} أي في إظهار دينه: ورغبهم في ذلك بطلب اليسير مما أعطاهم الله وزهدهم منه بقوله: {مما جعلكم} أي بقدرته {مستخلفين} أي مطلوبًا موجودًا خلافتكم {فيه} وهو له دونكم بما يرضي من استخلفكم في تمهيد سبيله فطيبوا بها نفسًا لأنها ليست في الحقيقة لكم وإنما أنتم خزان، وخافوا من عزلكم من الخلافة بانتزاعها من أيديكم بتولية غيركم أمرها، إما في حياتكم، وإما بعد مماتكم، كما فعل بغيركم حين أوصل إليكم ما وصل من أموالهم، «فليس لكم منها إلا ما أكلتم فأفنيتم أو لبستم فأبليتم أو تصدقتم فأبقيتم- وفي رواية: فأمضيتم».
وليهن الإنفاق منها عليكم كما يهون على الإنسان النفقة من مال غيره إذا كان أذن له فيه.
ولما أمر بالإنفاق ووصفه بما سهله، سبب عنه ما يرغب فيه فقال مبالغًا في تأكيد الوعد لما في ارتكابه من العسر بالتعبير عنه بالجملة الاسمية وبناء الحكم على الضمير بالوصف بالكبير وغير ذلك: {فالذين آمنوا} وبين أن هذا خاص بهم لضيق الحال في زمانهم فقال: {منكم وأنفقوا} أي من أموالهم في الوجوه التي ندب إليها على وجه الإصلاح كما دل عليه التعبير بالإنفاق {لهم أجر كبير} أي لا تبلغ عقولكم حقيقة كبره فاغتنموا الإنفاق في أيام استخلافكم قبل عزلكم وإتلافكم.
ولما رغب في الإنفاق والإيمان، وكان الإيمان مقتضى بالإنفاق، عجب ممن لا يبادر إلى الحاصل على كل خير، فقال مفصلًا لما أجمل من الترغيب فيهما، بادئًا بأبين كل خير، منفسًا عنهم بالتعبير بأداة الاستقبال بالبشارة بالعفو عن الماضي مرهبًا موبخًا لمن لا يبادر إلى مضمون ما دخل عليه الاستفهام، عاطفًا على ما تقديره: فما لكم لا تبادرون إلى ذلك: {وما} أي وأيّ شيء {لكم} من الأعذار أو غيرها في أنكم، أو حال كونكم {لا تؤمنون بالله} أي تجددون الإيمان- أي تجديدًا مستمرًا- بالملك الأعلى أي الذي له الملك كله ولأمر كله بعد سماعكم لهذا الكلام: لأن (لا) لا تدخل على مضارع إلا وهو بمعنى الاستقبال، ولو عبر بعبارة تدل على الحال لربما تعنت متعنت فقال: فأت ما طلب منا، والذي بعد هذا من الحال التي هي في معنى دالة على هذا، وهي قوله: {والرسول} أي والحال أن الذي له الرسالة العامة {يدعوكم} صباحًا ومساء على ما له من مقتضيات القبول منه من حسن السمت وجلالة القدر وإظهار الخوارق وغير ذلك {لتؤمنوا} أي لأجل أن تجددوا الإيمان {بربكم} أي الذي أحسن تربيتكم بأن جعلكم من أمة هذه النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- وشرفكم به {وقد} أي والحال أنه قد {أخذ ميثاقكم} أي وقع أخذه فصار في غاية القباحة ترك ما وقع التوثق بسببه بنصب الأدلة والتمكين من النظر بإبداع العقول، وذلك كله منضم إلى أخذ الذرية من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام وإشهادهم على أنفسهم وإشهاد الملائكة عليهم، وبنى الفعل للمفعول في قراءة أبي عمرو ليكون المعنى أيّ أخذ كان لأن الغدر عند الكرماء شديد من غير نظر إلى معين لا سيما العرب فكيف إذا كان الآخذ الملك الأعظم القادر على كل شيء العالم بكل شيء، ورسوله الذي تعظيمه من تعظيمه، كا صرحت به قراءة الجماعة بالبناء للفاعل ولا يخفى الإعراب، والحاصل أنهم نقضوا الميثاق في الإيمان، فلم يؤاخذهم حتى أرسل الرسل.
ولما حثهم على تجديد الإيمان على سبيل الاستمرار بالتعجب من ترك ذلك، وكان كل واحد يدعي العراقة في الخير، هيجهم وألهبهم بقوله: {إن كنتم} أي جبلة ووصفًا ثابتًا {مؤمنين} أي عريقين في وصف الإيمان، وهو الكون على نور الفطرة الأولى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {آمنوا بالله وَرَسُولِهِ}.
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواعًا من الدلائل على التوحيد والعلم والقدرة، أتبعها بالتكاليف، وبدأ بالأمر بالإيمان ورسوله، فإن قيل قوله: {ءَامَنُواْ} خطاب مع من عرف الله، أو مع من لم يعرف الله، فإن كان الأول كان ذلك أمرًا بأن يعرفه من عرف، فيكون ذلك أمرًا بتحصيل الحاصل وهو محال، وإن كان الثاني، كان الخطاب متوجهًا على من لم يكن عارفًا به، ومن لم يكن عارفًا به استحال أن يكون عارفًا بأمره، فيكون الأمر متوجهًا على من يستحيل أن يعرف كونه مأمورًا بذلك الأمر، وهذا تكليف مالا يطاق والجواب: من الناس من قال: معرفة وجود الصانع حاصلة للكل، وإنما المقصود من هذا الأمر معرفة الصفات.